المقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فالوقف من العبادات المالية التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل وذلك بوقف أي نوع من أنواع الأموال التي يمتلكها وقفاً لله تعالى لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتعتبر الأوقاف – بفضل الله عز وجل الذي شرع هذه الشعيرة المباركة شعيرة “الوقف” – أحد أهم الركائز التنموية في المجتمعات؛ وذلك لما تقوم به من دور كبير في التنمية المجتمعية في شتى نواحي الحياة، فالأوقاف كيانات مالية مستدامة بفضل تحبيس أصولها وتسبيل عوائدها ومنافعها.
والأوقاف تتنوع بحسب أنواع أموالها الموقوفة، فمنها: العقارية، والنقدية، والأسهم أو المحافظ الاستثمارية، والصناديق الوقفية، والمؤسسات والشركات، والمنقولات الأخرى كالسيارات وغيرها، فضلاً عن وقف المنافع والحقوق، وتتنوع كذلك بحسب أنشطتها، فرغم كونها كيانات غير ربحية إلا أن بعضها يقوم بأنشطةٍ ربحية، وكثيرٌ من الأوقاف التي لا تقوم بأنشطة ربحية يشترط الواقف فيها نسبة للتنمية والاستثمار من ريع العين الموقوفة، وبالتالي تعامل هذه النسبة معاملة الكيانات الهادفة للربح؛ ومن هنا تظهر أهمية المحاسبة على الأموال الموقوفة وما ينتج عنها من رَيْع وكذلك صرف هذا الرَّيْع وفق شروط الواقفين، حيث لها دورٌ هام تؤديـه في أي وقف، وإغفال هذا الدور يعرض الوقف لإشكالات شرعية ونظامية كبيرة.
ثم إن مجمع الفقه الإسلامي قد قرر أنه يجب عند استثمار أموال الوقف مراعاة الإفصاح دوريًّا عن عمليات الاستثمار ونشر المعلومات والإعلان عنها حسب الأعراف الجارية في هذا الشأن، وأوصى بأنه ينبغي أن تخضع إدارة الوقف لقواعد الرقابة الشرعية والإدارية والمالية والمحاسبية([1])، وهذا مما يصعب تحقيقه في غياب التنظيم المالي والمحاسبي للأوقاف.
وتأسيساً على ما سبقتأتى هذه الورقة لتسليط الضوء على بعض الإضاءات الهامة في التنظيم المحاسبي للوقف، وهي كما يلي:
الإضاءة الأولى: المقصود بالتنظيم المحاسبي للوقف:
هو مجموعة من القواعد والإجراءات المحاسبية التي تنظم عمل الوقف ابتداءً من صيغة الوقف التي صدرت عن الواقف ممثلةً في صك الوقفية أو وثيقة الوقف، ثم تسجيل هذا الوقف في الهيئة العامة للأوقاف والحصول على شهادة التسجيل، ومن ثَمَّ فتح حساب بنكي أو أكثر للوقف يتم من خلاله إجراء كافة التعاملات المالية الخاصة بالوقف سواءً فيما يتعلق بتشغيل الوقف أوالحصول على ريعه ثُم توزيع هذا الريع وفق شرط الواقف.
وهذا التعريف نابع من فهم الباحث لفلسفة الوقف في المملكة العربية السعودية – حرسها الله – حيث إن كل العمليات الاقتصادية التي يمر بها الوقف من بداية تدشينه مروراًبتشغيله وصولاً إلى تحصيل الريع ثم صرفه وفق شرط الواقف تتم وفق قواعد وإجراءات ومعايير محاسبيةمحددة، وتتثمل هذه القواعد والإجراءات المحاسبية في الإثبات([2])، والقياس([3])، والعرض، والإفصاح([4]).
الإضاءة الثانية: مرجعيات التنظيم المحاسبي للوقف:
تحكم عمليات الوقف ثلاث مرجعيات رئيسة تؤثر على عمل الوقف عموماً وعلى التنظيم المحاسبي خصوصاً، وتتمثل هذه المرجعيات فيما يلي:
المرجعية الأولى: مرجعية شرعية:
فالوقف تحكمه عدة قواعد شرعية، ولابد عند الشروع فيه أن نضع نصب أعيينا القواعد الشرعية المنظمة له.
وكذلك الفتاوى الشرعية التي يحتاج إليها الناظر الفينة بعد الأخرى، فبعض شروط الواقفين قديما قد تصبح مشكلة على ناظر الوقف فيحتاج أن يراجع فيها أهل الفتوى أو بعض طلبة العلم المتخصصين في الأوقاف أو بيوت الخبرةالمتخصصة في الأوقاف؛ لأنه سيترتب على هذه الفتاوى آثار محاسبية لشرط الواقف، وبالتالي هي مؤثرة بشكل كبير في التنظيم المحاسبي للوقف.
المرجعية الثانية: مرجعية نظامية
وهي متعلقة بالأمور النظامية التي تحكم عمل الوقف وأولى هذه الأمور هو: صك الوقفية الصادر من المحكمة؛لأنه أول مرجع نظامي يحكم عمل الوقف، وبالتالي هو مؤثر بشكل كبير في التنظيم المحاسبي للوقف نظراً لاحتوائه على شرط الواقف.
وأول خطوة ينبغي للناظر – بعد استلامه للنظارة ولصك الوقف – عملها: أن يحلل شرط الواقف تحليلا ماليا، وهذا التحليل يعتبر بمثابة قاعدة من القواعد الأساسية في التنظيم المحاسبي للوقف.
كذلك الأنظمة والتشريعات الصادرة عن الجهات ذات العلاقة بالوقف،وعلى رأسهاالهيئة العامة للأوقاف.
وقد صدرت لائحة تنظيم أعمال النظارةاستناداً إلى قرار مجلس الوزراء رقم (286) وتاريخ 21/5/1442 هـ، والذي تضمن في (ثانياً): “يُصدر مجلس إدارة الهيئة العامة للأوقافلائحة تتضمن ما يتعلق بأعمال النظارة من شروط والتزامات ومخالفات وتحديد العقوبة المترتبة على أي منها…”، وقد أعطت الهيئة العامة للأوقافمشكورةًمُهلةمدة عام لتصحيح الأوضاع، ثم بعده دخلت هذه اللائحة حيز التطبيق وبالتالي فهي من أهم المراجع النظامية التي ينبغي علينا أن نهتم بهافي العمل المالي والمحاسبي للوقف.
كذلك نظام الأوقاف الذي صدرت منه مسودتين على منصة استطلاع لأخذ مرئيات العموم ثم هو الآن– حتى تاريخ كتابة هذه الورقة – في مرحلة إنضاج وتهيئة،ولعله يصدر قريباً إن شاء اللهبصورة تليق بمكانة المملكة – حرسها الله -،وبالقطاع الوقفي فيها، ودوره العظيم.
كذلك من المراجع النظامية التي ينبغي العناية بها: لائحة تنظيم جمع التبرعات بغرض إنشاء الأوقاف وتمويلها التي عرضت قبيل بضعة أشهر على منصة استطلاعلأخذ مرئيات العموم، حيث بعد صدورها ستعتبر مرجعاً ومؤثرا كبيرا للتنظيم المحاسبي في الوقف.
كذلك لائحة مبادئ حوكمة الأوقاف والمترقب صدورها عن الهيئة العامة للأوقاف قريباً إن شاء الله، وهذه كذلك ستؤثر بشكل كبير؛ حيث تحوي عدداً من المواد التي تعنى بحوكمة الجوانب المالية والمحاسبية في الوقف.
ومن المراجع النظامية التي تخص الأمور الفنية المحاسبية بشكل مباشر في الوقف وتؤثر فيها بشكل كبير:المعيار المحاسبي الخاص بالمنشآت غير الهادفة للربح الصادر عن الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين (SOCPA)، والتعديلات الذي أجريت عليه والتي اعتمدها مجلس معايير المحاسبة في اجتماعه الثامن المنعقد في جمادى الأولى 1445هـ/ نوفمبر 2023م،وهذه التعديلات ستسري على القوائم المالية المعدة عن الفترات السنوية التي تبدأ في 1-1-2025م([5]).
المرجعية الثالثة: المرجعية التنظيمية
وهي تتمثل في اللوائح والإجراءات والسياسات المعمول بها داخلياً في الوقف، والتي تم اعتمادها من أصحاب الصلاحية في الوقف سواء أكان مجلس إشراف أو مجلس نظارة أو ناظر بحسب ما تحدده مصفوفة الصلاحيات المالية والإدارية للوقف، وهذه اللوائح والسياسات مؤثرة بشكل كبير في التنظيم المحاسبي، ومن أمثلة هذه اللوائح والسياسات الداخلية للوقف:
- لائحة حوكمة الوقف.
- لائحة التنظيم المالي للوقف.
- لائحة تنظيم أعمال مجلس النظارة.
- لائحة الموارد البشرية.
- لائحة الاستثمار.
- مصفوفة الصلاحيات المالية والإدارية.
- سياسة الصرف / المنح / الدعم.
- سياسة تعارض المصالح.
- لائحة حقوق المستفيدين.
- سياسة الإبلاغ عن المخالفات.
- سياسة الاحتفاظ بالوثائق وإتلافها.
- سياسة الإفصاح والشفافية.
- سياسة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- سياسة قواعد السلوك المهني.
الإضاءة الثالثة: أهداف التنظيم المحاسبي للوقف:
اتفق أهل الأديان السماوية وعقلاء بني آدم على أن أهم ما يصلح به حال البشر حفظهم لأمور كلية خمسة، هي ما يطلق عليه الكليات الخمس (الدين، النفس، العقل، النسل، المال)، وقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس سواء من حيث الوجود، إذ شرعت لها ما يحقق وجودها في المجتمع، أو من حيث البقاء والاستمرار بإنمائها وحمايتها من أسباب الفساد والزوال([6]).
فحفظ المال عموماً ضرورة من ضروريات الحياة، فما بالكم بالمال الموقوف والذي يعتبر في حكم ملك الله تعالى؟! فكل ما يتضمن حفظ المال الموقوف فهو مصلحة ينبغي أخذها في الاعتبار، وكل ما يفوت حفظ المال الموقوف فهو مفسدة ينبغي الحذر منها.
والهدف الأول والأكبر والأعظم للتنظيم المحاسبي للوقف هو: حفظ المال الموقوف وحمايته وحفظ حقوق الأطراف المتعاملة مع الوقف:
يجب على ناظر الوقف الاحتياط في حفظ أصول المال الموقوف، فإن تساهل الناظر في حفظها بتفريط، أو إهمالأو تغيير وتسبب في وقف منفعتها وضياع غلتها ترتبت على فعله هذا أمور منها: الإثم في الآخرة، وقطع الخير عن الموقوف عليهم، ومنع قصد الواقف في جريان صدقته، ويحال إلى التحقيق والمحاكم لإدانته، أو براءته([7]).
فكيف للناظر القائم على شؤون الوقف أن يحمي هذا المال الموقوفويحفظه دون وجود تنظيم محاسبي سليم وفاعل في الوقف؟!
وكيف للناظر أن يحفظ حقوق الأطراف ذات العلاقة بالوقف كحقوق النظار،أوحقوق الموقوفعليهم،أوحقوق العاملين في الوقفدون وجود تنظيم محاسبي سليم وفاعل في الوقف؟!
الهدف الثاني: إبراء ذمة الناظر:
فحينما يضع الناظر تنظيماً محاسبياً جيداً للوقف فإنه يستطيع إبراء ذمته على نحوٍ مرضٍ؛ لأن التنظيم المحاسبي الجيد يقتضي أن يقوم الناظر بإثبات جميع معاملات الوقف ابتداءً من تسلمه للنظارةمروراً بتشغيل الوقف أياً كان نوع المال الموقوف، حتى الحصول على الريع ومِن ثَمَّ توزيع الريع على المصارف التي حددها الواقف في صك الوقفية، وبالتالي يستطيع الناظر الإفصاح بكل شفافية عن كل ما يخص الوقف، ويستطيع تقديم أي تقارير تُطلب منه تخص حركة ريع الوقف ومصارفه، وبالتالييُبرئ ذمته أمام الله عز وجل، ثم أمام الجهات الرقابية كالهيئة العامة للأوقاف، فضلاً عن إبراء ذمته أمام المستحقين إذا كان الوقف ذُرياً أو مُشتركاً.
الهدف الثالث: معرفة نتيجة الوقف:
فالوقف طوال العام يقوم بالعديد من العمليات من خلال تشغيله وإدارته- أيا كان نوعه – من أجل الحصول على ريع في مدد معينة يُستحق فيها هذا الريع، ثم في نهاية العام المالي للوقف يتم إقفال الحسابات، وعلى إثره يتم توزيع الريع وفق شرط الواقف.
ودون وجود تنظيممحاسبي سليم للوقف لن نستطع معرفة نتيجة نشاط الوقف وقياس أثر المعاملات المالية التي تحدث فيه طوال العام وما يُسفر عن ذلك من فائض أو عجز لاتخاذ القرارات اللازمة بشأنها.
الهدف الرابع: بيان المركز المالي للوقف ومعرفة حقوقه والتزاماته:
وأقصد بالمركز المالي للوقف أصول الوقف والتزاماته، فمتى انتقل الوقف من ملك صاحبه إلى ملك الله عز وجل صارت له شخصية اعتبارية مستقلة، يترتب عليها ذمة مالية مستقلة من مقتضياتها أن يكون للوقفحقوق، وأن يكون عليه التزامات، وبالتالي إذا أراد المتولي معرفة المركز المالي للوقف سيكون بحاجة إلى وجود تنظيم محاسبي سليم؛ إذ يصعب بيان ما للوقف من حقوق وما عليه من التزامات دون وجوده.
الهدف الخامس: توفير البيانات والمعلومات المالية اللازمة لاتخاذ القرارات:
البيانات والمعلومات المالية التي يُنتجها التنظيم المحاسبي السليم للوقفتعتبر بمثابة حجر الزاوية في القرارات التي يتخذها النظار أو أصحاب الصلاحية في الوقف؛فإذا أراد صاحب الصلاحية اتخاذ أي قرارات متعلقة بالوقف دون وجود بيانات ومعلومات مالية ناتجة عن تنظيم محاسبي سليم فإنه لن يستطيع اتخاذ القرار المناسب، بل قد يكون قراره خاطئاً أو غير سليماً.
الهدف السادس: الامتثال للأنظمة واللوائحالمنظمةلعمل الوقف والتي تصدر عن الهيئة العامة للأوقاف:
على رأس هذه الأنظمة واللوائحلائحة تنظيمأعمال النظارة والتي نصت على أن يكون للوقف حساباً بنكياً أو أكثر، وأن تتم كل عمليات الوقف من خلال هذا الحساب البنكي، وعدم خلط الأموال الخاصة بالوقف مع الأموال الشخصية([8]).
وكذلك نصت على أن تقوم الأوقافالكبيرة والمتوسطة بإعداد الموازنة التقديرية لكافة أنشطة الوقف، وإعداد القوائم المالية المدققة والمعتمدة من محاسبينومراجعين معتمدين من الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين([9]).
وأيضاً نصت على أن تقوم الأوقاف الصغيرة، والأوقاف ذات الانتفاع المباشر في حال وجود وارداتومصروفات، بإعداد بيان مالي بشكل سنوي يوضح واردات ومصروفات الوقف([10]).
فوجود التنظيم المحاسبي السليم للوقف يساعد كثيراً على الامتثال للأنظمةواللوائح المنظمة لعمل الوقف، وتلبية متطلبات الهيئة العامة للأوقاف، والجهات الأخرى ذات العلاقة كهيئة الزكاة والضريبة والجمارك ونحوها.
الإضاءة الرابعة: تفعيل الذمة المالية المستقلة للوقف:
بمجرد انتقال الموقوف من ملك الواقف إلى ملك الله عز وجل تصير له ذمة مالية مستقلة عن ذمة الواقف، وعن ذمة ناظر الوقف، وعن ذمة الموقوف عليهم([11]).
وعليه فليس من الصحيح أبداً أن يستقبل الواقف الأموال الخاصة بريع الوقف على حسابه البنكي الخاص ولا أن يخلط ذمته المالية الشخصية بالذمة المالية للوقف، ومن الممارسات الخاطئة كذلك أن يقوم ناظر الوقف باستلام الأموال الخاصة بريع الوقف على حسابه الخاص ثم يصرف من حسابه الخاص، فهذه التصرفات غير صحيحةومخالفةلصريح ما جاء في لائحة تنظيم أعمال النظارة الصادرة عن الهيئة العامة للأوقاف بالفقرة الأولى من المادة الخامسة عشرة.
وأولى خطوات تفعيل الذمة المالية المستقلة للوقف أن يقوم المتولي بتسجيل الوقف بالهيئة العامة للأوقاف والحصول على شهادة التسجيل والتي تخوله مع صك الوقفية بفتح حساب بنكي أو أكثر – على حسب البنود الواردة في شرط الواقف – باسم الوقف،على أن تجرى كافة العمليات المالية للوقف من خلال حساباته البنكية، وأن يحذر المتولي في المعاملات الخاصة بالوقف من استخدام حساباته البنكية الخاصة أو أي حسابات وسيطة بدلاً من الحسابات البنكية للوقف، أو أن يخلط الأموال الخاصة بالوقف بأمواله الشخصية، فهذا فيه تعطيل للذمة المالية المستقلة للوقف وخلطها بالذمة المالية للمتولي.
الإضاءة الخامسة: تفعيل الوظائف المالية المصاحبة لحركة ريع الوقف ومصارفه.
حينما يُفَعِّل المتولي الذمة المالية المستقلة للوقف ويفتح حسابات بنكية باسم الوقف، فستكون هناك تدفقات مالية من وإلى هذه الحسابات، هذه التدفقات المالية تتمثل في حركة ريع الوقف ومصارفه والتيينبغي أن تتبعها أربع وظائف مالية:
الوظيفة الأولى: القيادة المالية:
وهذه وظيفة القائد المالي الذي يعتمد صرف الريع وفق شرط الواقف، سواءً كان الناظر، أو مجلس النظارة،أو رئيسه ونائبه، أو الأمين العام أو المدير التنفيذي، حسب ما تقرره مصفوفة الصلاحيات المالية والإدارية للوقف من بيان للقائد المالي ومن بيده صلاحية الاعتماد في الوقف.
الوظيفة الثانية: الإدارة المالية:
وهي وظيفة تجمع بين بعدين:
- البعد الأول: هو بعد تنفيذي قريب من المحاسبة.
- والبعد الثاني: هو بعد قيادي قريب من القيادة المالية.
ووظيفة الإدارة المالية في الوقف أن تساعد القيادة المالية على تحقيق أمرين في غاية الأهمية:
- المحافظة على المال الموقوف.
- تنمية المال الموقوف واستثماره لتحقيق أكبر عائد ممكن، أو أكبر أثر مترتب على شرط الواقف.
الوظيفة الثالثة: المحاسبة المالية:
وهي قطب الرحى ورمانة الميزان وحجر الزاوية في العمل المالي للوقف،فهي بمثابة فرض عين في الوقف، إذ لا يتصور أبداً وجود وقف بدون محاسبة، إذ أنه بدون محاسبة لا تستطيع القيادة المالية ولا الإدارة المالية ولا الرقابة المالية أن تقوم بدورها؛ لأن المحاسبة المالية هي التي تغذي هذه الوظائف.
الوظيفة الرابعة: الرقابة المالية
الرقابة المالية من الوظائف المهمة في الوقف حيث تدور مع ريع الوقف ومصارفه وجوداً وعدماً، وتتنوع وفقاً لاعتبارات مختلفة أهمها – من وجهة نظر الباحث – توقيت عملية الرقابة أو موقعها من الأداء المالي في الوقف([12]).
فمن حيث التوقيت أو موقعها من الأداء المالي في الوقف تنقسم الرقابة المالية إلى ثلاثة أنواع:
- الرقابة السابقة: وهي رقابة وقائية قبل بداية العام المالي للوقف ومن شأنها منع حدوث الخطر– بفضل الله -، ومن أدواتها الخطط التشغيلية والموازنات التقديرية للوقف، اللوائح والسياسات والإجراءات المعتمدة من صاحب الصلاحية في الوقف،والفتاوىالشرعية التي يستند عليها في عمله، وهي من أفضل أنواع الرقابة.
- الرقابة المصاحبة: وهي رقابة الأداء الفعلي للوقف خلال العام المالي، حيث تقوم بالتأكد من كون الأداء الفعلي موافق لما هو مخطط له، والوقوف على نقاط القوة لتعزيزها، ونقاط الضعف لمعالجتها، وهذا النوع من الرقابة مهم جداً لاكتشاف الانحرافات أو الإهمال أو التقصير في الوقف، ومن دونه لا يكون للرقابة السابقة أي جدوى.
- الرقابة اللاحقة:وتكون بعد انتهاء العام المالي للوقف، وتقوم بها أجهزة الرقابة الخارجية المتخصصة من خلال فحص ومراجعة العمليات المالية التي تمت في الوقف للكشف عن أي مخالفات مالية، ويعاب عليها أنها تأتي متأخرة وبالتالي لا تكتشف الأخطاء إلا بعد وقوعها وأحياناً تأتي بعد تولي ناظر آخر أو تغير في الكوادر العاملة في الوقف، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها.
الإضاءة السادسة: عناصر النظام المحاسبي للوقف
إن أراد الناظر تفعيل وإنشاء النظام المحاسبي للوقف فيلزمه مراعاة أمورمهمة لتكوين نظام محاسبي متكامل على النحو التالي:
أولا: بعد أن يستلم صك الوقفية يقرأ شرط الواقف، ويفهمه جيدا، ويحلله تحليلا ماليا عن طريق مشجرات ونسب، ويركز في العبارات والألفاظ ودلالات هذه الألفاظ التي وضعها الواقف في صك الوقفية، مثل: هل المصرِف من إجمالي الريع؟ أم من صافي الريع؟ أم من صافي الريع القابل للتوزيع؟ فكل هذه الألفاظ لابد من العناية بها وتفسيرها ووضع النسب المقررة وفق شرط الواقف، ثم بناء على هذا يبني العنصر الأول من عناصر النظام المحاسبي للوقف وهو دليل الحسابات، أو ما يسميه المهنيون في مجال المحاسبة والمالية بشجرة الحسابات، وله خمس مرتكزات استراتيجية أساسية على النحو التالي:
المرتكز الأول: أصول الوقف.
المرتكز الثاني: التزامات الوقف –يسميه المحاسبون: الخصوم-.
المرتكز الثالث: صافي أصول الوقف، ويُمكن جمعها مع الالتزامات في تبويب واحد فتكون الالتزامات وصافي الأصول.
المرتكز الرابع: إيرادات الوقف.
المرتكز الخامس: مصارف الوقف.
وتحت هذه المرتكزات العديد من البنود: حسابات رئيسية متفرعة عنها، ثم حسابات فرعية متفرعة عن الحسابات الرئيسية، ثم تحليلية.
وضمن جهودها المبذولة في تطوير القطاع الوقفي فقد بذلت الهيئة العامة للأوقاف عنايتها في هذه الجانب حيث قامت على مشروع دليل الحسابات الاسترشادي الموحد للأوقاف والتي تهدف من خلاله إلى وضع دليل استرشادي موحد لحسابات الأوقاف يتوافق مع المعايير الخاصة بالمنشآت غير الهادفة للربح، ويهدف إلى دعم بناء وتصميم عدد كبير ومتنوع من التقارير المالية التي تخدم كافة المستويات من إدارة الوقف إلى الجهات الإشرافية لتعزيز دور الهيئة والنظار في حفظ أموال الأوقاف واستثماراته.
وحتى لحظة كتابة هذه الورقة تجري الهيئة العديد من ورش العمل من أجل أن يخرج الدليل بصورة تلبي متطلبات القطاع الوقفي بالمملكة – حرسها الله -، ولعله يُنشر على موقع الهيئة قريبا إن شاء الله تعالى.
العنصر الثاني: الشواهد والمستندات:
فكل عملية تجري في الوقف لابد لها من شواهد ومستندات تثبت هذه العملية بين الوقف والطرف ذات العلاقة، والأصل ألا تُثبت عملية في سجلات الوقف المحاسبية إلا بناءً على مستندات مرجعية.
العنصر الثالث: الدورة المحاسبية:
يتم تشغيل هذه البيانات المالية المتعلقة بعمليات الوقف، والمعتمدة على الشواهد والمستندات المرجعية من خلال هذا العنصر الثالث من عناصر النظام المحاسبي وهو الدورة المحاسبية.
والدورة المحاسبية للوقف تعتمد على ثلاث ركائز أساسية:
الركيزة الأولى: دفاتر وسجلات محاسبية، وقد وفرتها الأنظمة الحديثة.
الركيزة الثانية: محاسب متخصص كي يتعامل مع هذه الشواهد والمستندات، وما وراء الأرقام الواردة فيها، وذلك في كل العمليات التي تخص الوقف.
الركيزة الثالثة: المعالجة المحاسبية السليمة التي تراعي السمات التي يتميز بها الوقف عن غيره من الوحدات المحاسبية.
العنصر الرابع:التقارير والقوائم المالية:
وهي التقارير المتنوعة للوقف والتي تخدم أصحاب الصلاحية في اتخاذ القرارات، أو التي تُرفع للهيئة العامة للأوقاف أو الجهات ذات العلاقة، فضلاً عن القوائم المالية للوقف، وهذا العنصر بمثابة المخرجات الخاصة بالنظام المحاسبي للوقف.
كانت هذه بعضَ الإضاءات في التنظيم المحاسبي للوقف،فما كان فيها من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأٍ أو سهوٍ أو نسيانٍ فمن نفسي والشيطان، ورحم الله من قرأها فَسَدَّ خللًا أو أصلح عيبًا أو ذكّر بمفيد،
و«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»([13]).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.ِ
([1]) مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الخامسة عشرة بمسقط (سلطنة عُمان) من 14-19 المحرم 1425هـ، الموافق 6-11 آذار (مارس) 2004م، قرار رقم: 140 (15/6) بشأن الاستثمار في الوقف وفي غلاته وريعه.
([2])المقصود بالإثبات: تسجيل جميع معاملات الوقف ابتداءً من وقفه مروراً بتشغيله حتى الحصول على ريعه ومِن ثَمَّ توزيع الريع وفقاً للمصارف التي حددها الواقف.
([3])المقصود بالقياس: ترجمة معاملات الوقف إلى صورة نقدية لبيان الحقوق ونتائج أنشطة الوقف والمركز المالي له.
([4])المقصود بالعرض والإفصاح: عرض المعلومات المحاسبية عن معاملات الوقف في صورة قوائم وتقارير مالية، وتفسيرها؛ لتساعد إدارة الوقف سواء الإدارة التنفيذية أو مجلس النظارة، أو غيرهم من الجهات المعنية بالوقف وعلى رأسها الهيئة العامة للأوقاف في الحصول على معلومات صادقة تكون أساسًا لاتخاذ القرارات.
([5])انظر: موقع الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين، التحديثات على المعايير المحاسبية للمنشآت غير الهادفة للربح.
تم الاطلاع س 6:20م، تاريخ 04/05/2024م.
([6])انظر مقالة بعنوان: “مقاصد الشريعة الإسلامية” للشيخ الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق، على موقع شبكة الألوكة.
تم الاطلاع س 7:33م، تاريخ 04/05/2024م.
([7])وظائف ناظر الوقف في الفقه الإسلامي، للدكتورةنور بنت حسن قاروت، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى، (ص:5 ) بتصرف.
([8]) لائحة تنظيم أعمال النظارة الصادرة عن الهيئة العامة للأوقاف، الفقرة (1) من المادة الخامسة عشرة.
([9]) المرجع السابق، الفقرة (4) من المادة الخامسة عشرة.
([10]) المرجع السابق، الفقرة (5) من المادة الخامسة عشرة.
([11]) للاستزادة في هذه الجزئية يُنظر رسالة بعنوان: ” الذمة المالية للوقف فقهاً ونظاماً ” أعدها د. أحمد بن عبد الرحمن بن ناصر الحمد، وهي من إصدارات مؤسسة ساعي لتطوير الأوقاف.
([12])استفدت في هذه الجزئية من كتاب بعنوان: ” الرقابة المالية في الإسلام ” د. عوف محمود الكفراوي،أستاذ الاقتصاد الإسلامي المساعد، كلية الشريعة بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1983م.