يقف الفاروق عمر -رضي الله عنه- على أرض خضراء في خيبر تتلألأ بالنخيل، يتأمل ملكًا نفيسًا وهبه الله له، وقلبه يتوق أن يجعله صدقة جارية لا تنقطع، فيُولّي شطر قلبه إلى رسول الله ﷺ يستشيره، فيجيبه ﷺ بكلمات خالدة: “إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها”.
فكتب عمر -رضي الله عنه- أول وثيقة وقفية مكتوبة في الإسلام، وحدد فيها المقاصد والأغراض، وضبط الشروط والمصارف، ووضع صلاحيات التصرّف؛ ليضع هذا الصحابي الجليل المُلهم حجر الأساس لأعظم نظام استثماري اجتماعي مستدام تعرفه البشرية، وهو: “الوقف”.
وحين النظر في هذه الوثيقة الوقفية المباركة نجد أنها -في بادئ النظر- ورقة مكتوبة، لكنها -حين التأمل- نواة “حوكمة الأوقاف” الذي ظلّ حاضرًا حتى يومنا هذا.
وعندما نقرأ هذه الوثيقة، تتجلى لنا مبادئ ثمانية لا غنى عنها لكل واقفٍ أو ناظرٍ أو مستشار وقفي، وهي:
· وضوح المقصد: فبدون مقصد محدد تصبح المصارف فضفاضة، ويفتح باب الاجتهاد الخاطئ؛ فيتعثر الوقف، ويضيع الأثر.
· مرجعية مُعتمدة: فالوثيقة أصل فقهي، ومرجع نظامي أساسي.
· رُشْدُ الواقف: فقد اختار عمر -رضي الله عنه- أرضًا نفيسة بخيبر، واستشار، وأخلص النية؛ وهو درس مهم للواقفين في نوعية الأصول، واستشارة أهل الخبرة والدراية، وقبل ذلك إخلاص النية لله تعالى.
· سلامة العين: وذلك في التأكد من الملكية الشرعية، وصلاحية الأصل قبل حبسه.
· لزوم الوقف: فالوقف بعد إنشائه لازم، لا رجوع فيه، ولا تلاعب بحقوق المستفيدين.
· شرط الواقف: وهو يمثّل “لائحة تنظيمية” تحدد كثيرًا من تنظيم الوقف وأعماله كالنظارة، والمصارف، والتشغيل، والتنمية، وغير ذلك.
· توثيق صارم: فقد كتب عمر -رضي الله عنه- وثيقته، وأشهد عليها؛ ليبقى الوقف في مأمن من النزاعات، أو التصرفات الخاطئة.
· قابلية التكييف والمرونة: فالوثيقة تكوّن نموذجًا يُترجم اليوم إلى أدوات حديثة كالأنظمة الرقمية والحوكمة المؤسسية.
وفي الحقيقة أنّ ما بدأه عمر -رضي الله عنه- في وثيقته الوقفية في بداية القرن الأول الهجري لحظة تاريخية تجمع التأسيس لمعاييرٍ حيّة تحكم صياغة الوثائق الوقفية حتى يومنا هذا؛ فحريٌ بكل واقف ومستشار وناظر أن يجمع بين المبادئ الثابتة وقوائم التحقق العملية المعاصرة؛ لبناء وثائق وقفية متميّزة تحقق أعلى درجات الحوكمة والاستدامة والأثر.